"حب وقمامة" لـ إيفان كليما.. ضريبة الخروج عن لغة الحمقى في النظم الشمولية


سأله زملاؤه قُبيل مغادرته لأمريكا، عن السبب الذي يدفعه إلى ترك بلدهم الغني الحر، والعودة إلى بلد فقير، لا ينعم بالحرية، من المحتمل أن يُسجن فيه أو يُنفى إلى سيبيريا، حدّثهم برومانسية عن الحنين إلى وطنه ولغته الأم، وقال: "إن الناس في بلادي يعرفونني، حتى لو اضطررتُ إلى جمع القمامة من الشوارع، فسوف أكون في نظرهم كاتبًا، أما هنا فسوف أظل واحدًا من أولئك المهاجرين، الذين أشفق عليهم هذا البلد العظيم".
بعد سنوات اكتشف حماقة تبجّحه، حين هجر أوراقه وأقلامه، وارتدى البدلة البرتقالية، وانضم إلى فريق جمع القمامة في بلده، حتى يخرج من العزلة التي فرضها عليه نظام الحزب الواحد. حينها أدرك أنه ليس سوى زبّال في شوارع براغ، لا يكاد أحد من الناس يلحظه، ومنذ ذلك الإحباط بدأت حكايته، التي سوف يودعها إيفان كليما صفحات روايته "حب وقمامة"، ولن تكون سوى تأملات في معنى القمع، الذي أحال حياته إلى ركام هائل من النفايات، يصعب التخلّص منها.
يسير الكاتب مع زملاء المهنة الجديدة، ينظفون العاصمة، ومن بين أكداس القمامة تخرج شظايا ذاكرته، يتأملها بصمت وحياد، ويتركها في مكان ما من سيرة وعيه، التي بدأت مع الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا، ووقوعه مع أسرته في معّزل لليهود، قُبيل إرسالهم إلى معسكر أوشفيتز، وعند انتصار الجيش السوفيتي، ونجاته بأعجوبة من الموت، اكتشف أن كل من أحبهم في فتوته قُتلوا، وأن أرواحهم الهائمة، سوف تظل تلاحقه، وتطالبه أن يكتب عنهم.
تتقافز ذاكرة الكاتب وتداعياته ما بين الأزمنة والأمكنة والوجوه، من دون مقدمات، ولا مسار محدد، أو حتى حبكة بسيطة تجمع الخيوط المتشعبة والمتداخلة إلى بعضها، ويتحدث عن نفسه بضمير المتكلم، من دون يُلبس أناه هالة المثقفين، أو يوكل إليها دور الضحية، بل يضعها عارية أمام أعين القراء، بكل ما فيها من سلبيات ومواضع ضعف وتردد وخوف، أو قسوة في بعض الأحيان، يسرد سيرته بلا تحفظات، التي هي سيرة كليما نفسه، ويشير في الختام أنها كُتبت ما بين الأعوام (1983-1986)، أي في الفترة الأخيرة من جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية، التي سبقت بثلاث سنوات قيام "الثورة المخملية"، وتولي فاتسلاف هافل الرئاسة عام 1989، ومن ثمة انفصال دولة التشيك عن سلوفاكيا، وحل الحزب الشيوعي عام 1993.
يذهب الراوي حيث تأخذه خواطره على وقع حركة القمامة والكنس، يتحدث عن حاضره وماضيه، عن أسرته ومعارفه، قراءاته وانطباعاته ومشاعره، وقلبه المشطور بين امرأتين، وكلماته تعيد تشكيل معالم الفضاء العام الذي عاش فيه، تحكي عن التماثيل العملاقة، التي تعكس عبادة الذات وطمس التاريخ. وعن الجنون الذي يُصاب به المبدعون، حين يصادفهم أشخاصًا يجلسون خلف المكاتب، ولديهم أوامر بمنع أي تقدم ورخاء. عن الفساد والوشاة الذين يترقون إلى أعلى المراتب. عن حوادث الاغتصاب والعنف ضد المرأة، وعن محاولات التسلّل اليائسة خارج الحدود.
يحكي عن الحيثيات التي دفعته إلى العمل في جمع القمامة، حين كان يعيش نوعًا من النفي الغريب مدى عشرة أعوام، قضاها مراقبًا ومحاصرًا، وممنوعًا من السفر، ونشر ما يكتب: "ما كان دخول الحياة مسموحًا لي، إلَّا بصفة زائر أو ضيف، أو بصفة عامل مياوم في بعض الأعمال المختارة، وهكذا صار بيتي ملجئي وقفصي. تعلّقتُ بأطفالي، أو لعلني على الأقل كنت محتاجًا إليهم أكثر مما يكون الآباء محتاجين إلى أطفالهم عادة. وكنت محتاجًا إلى زوجتي على نحو مماثل، ومن خلالهم نفذّتُ إلى ذلك العالم الذي كنتُ منفيًا عنه".
يقول: "لم يكن عندي عمل أذهب إليه، كنتُ أجلس إلى طاولتي بعد خروج الجميع في الصباح، وكانت أمامي أكداس من الورق الأبيض وامتداد النهار الذي لا حدود له، وعمق الصمت. وأما صوت الأقدام الذي يتردد أحيانًا في المبنى، فكان يجعلني حذرًا متوفزًا. كنت أكتب طيلة ساعات وأيام وأسابيع، أكتب مسرحيات، أعرف أنها لن تُقدم على المسارح، وأكتب قصصًا، أعرف أنها لن تُنشر. كنت أجلس إلى مكتبي فأحس بثقل السقف من فوقي، بثقل الجدران والأشياء، أبني حبكات ما أكتبه، لكن حبكة حياتي أنا، كانت جامدة في مكانها".
كان الكاتب يسدّد راضيًا ضريبة إيمانه بحرية التعبير، وخروجه عن لغة المدّاحين والوصوليين، أو ما يسميها بـ"لغة الحمقى"، وكان يدفع ثمن انحداره من أب معارض، سُجن مرتين، وأُتهم بسوء أداء عمله في عهد ستالين، مع أنه مهندس قدير، شارك في تصميم محركات القطارات السريعة والطائرات، وكان يتمتع باحترام الناس، لكنها "وصمة الأصل غير المناسب" ورثها عن أبيه، وأورثها بدوره إلى زوجته وولديه، وكل من حاول الاقتراب منه، بمن فيهم ذلك الشاب، الذي دعاه مرة إلى منزله، لقراءة بعض نصوصه بين حلقة صغيرة من الأصدقاء، ودعته أجهزة الأمن للتحقيق معه.  
كان يتوق إلى من يخرجه من صحرائه، وظهرت له داريا بكامل حيويتها ورقتها، فنانة زارها في محترفها المتواضع، واقتنى إحدى منحوتاتها، وفاجأته بحضورها في منزله، عشية يوم ميلاده السابع والأربعين، تريد استعارة منحوتتها لمعرض سيُقام لها في بودابست. دعاها إلى الدخول، وقدّمها إلى زوجته ليدا، التي بدت سعيدة بمعرفتها، وبعد أسبوع هاتفها، وأحس بإثارة لا تناسب سنه، وظل لسنوات يتأرجح ما بين دفء العائلة وشغف الحب، وهو يشعر بتبكيت الضمير إزاء امرأتين، لم يستطع أن يحسم أمره بصدد اية واحدة منهّن.
كانت داريا الحب الذي احتضن وجوده، وحرره من العزلة، وكانت قادرة في كل مرة يراها، أن تفتنه، وتفهمه، وتعلمه كيف يصغي إلى صوت أعماقه، على خلاف زوجته الطبيبة النفسية، التي التقاها بعد تخرجه من الجامعة، قبل خمس وعشرين سنة، ولم يكن في لقائهما أية أحداث أو إمارات تُذكر، سوى أن وجد كل واحد منهما، أنه معجب بالآخر، ويأنس له، ومنذ ذلك الحين وهي تعرض القهوة عليه، ولم تلاحظ أنه لا يشربها.
من حين لآخر يغادر الراوي شبكة العلاقات التي يتحرك ضمنها، وينتقل للحديث عن تجربته مع الأدب، وعن القوة المحيّرة في المِخيال البشري، التي بإمكانها أن تحي الموتى، وتمنع الأحياء من الموت، ويريد للكتاب "أن يكون مثل فأس، تضرب البحر المتجمّد في داخلنا"، تمامًا كما تفعل كتب كافكا، الذي تطل صورته الحزينة من بين وجوه الرواية، وتتكرر من فصل لآخر، كأنها لازمة موسيقية، تطل بوصفه الكاتب الأثير لدى كليما، والكاتب التشيكي اليهودي المبدع، الذي كانت مؤلفاته ممنوعة من التداول في المعسكر الاشتراكي: "نقترب من باد موريتز، حيث كان صديقنا الريفي، العاشق الفاشل فرانز كافكا، يستعد للسقوط في الحفرة السوداء قبل نصف قرن"، "لقد تحطم كافكا، لكنه نجح على الأقل في الارتفاع من الرماد، حتى يصف سقوطه ثانية بعد ثانية، حركة بعد حركة".
يسرد الكاتب حكايته بلغة أدبية جميلة، ويبدى ملاحظاته وأفكاره حول ما خبره، وشهدَ عليه من موقعه كقارئ مطّلع، ومثقف معارض، يستند إلى خزين واسع من المعارف والمعلومات. يحدثنا عن الثورات المجّهضة في أجنتها، وعن الفردوس المفقود، الذي طالما حلمنا به، لأننا نتوق إلى الهروب من الوحدة. "الوحدة التي تجعلنا نبحث عن حب كبير، أو نمضي من شخص إلى آخر، آملين أن يلاحظنا أحدهم، ويرغب في  ملاقاتنا، أو الحديث معنا على الأقل. يكتب بعضنا شعرًا لهذا السبب، أو يخرج في مسيرات احتجاج، أو يهلل لشخصية من الشخصيات، أو يصادق أبطال المسلسلات التلفزيونية، أو يؤمن بالآلهة أو بالرفاقية الثورية، أو يتحول إلى مخبر... يبحث الناس عن صور للفردوس، فلا يعثرون إلَّا على أشياء من هذا العالم!"
وفي سبيل الوصول المستحيل إلى الجنة الضائعة، اخترع الإنسان طقس الأضاحي البشرية منذ القدم، واليوم يبحث الناس عن أضاحيهم بين ظهرانيهم، وهم في أغلب الأحيان يختارون الأشخاص الأكثر ضعفًا وهشاشة. ما عادوا يريقون دماءهم، بل يتلفون أرواحهم.
بعد أعوام يتعب الراوي، يودّع زملاءه في جمع القمامة، يهجر عشيقته، ويعود صاغرًا إلى قفصه الذهبي، لكن كلمة الحرية تبقى الأثيرة في قاموسه، من أجلها يعيش، ولأجلها يكتب، مع أنه يدرك أنها في انحسار، وأن أناسًا كثيرون يتشدّقون بها، وينكرونها على الآخرين، بل إن بوابات معسكرات الاعتقال أيام طفولته، كانت تحمل هي الأخرى شعار الحرية. وكنتُ أقرأ الرواية، وتحضرني الحياة في "عرين الأسد".

تهامة الجندي
صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ، 28 حزيران 2015 

الكتاب: "حب وقمامة" رواية في 153 ص، قطع متوسط، المؤلف: إيفان كليما، المترّجم: الحارث النبهان، الناشر: دار التنوير/ بيروت 2012.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

عبد الباسط الساروت.. فارس من هذا الزمن

باولو دالوليو.. سلام عليك يا أبا الثورة